نظرية برونر

نظرية برونر في التربية و التعليم : الأسس و المنطلقات

 مقدمة

وُلد برونر كفيفًا عام 1915 م، وهو من أصل بولندي، ولم يتمكن من الرؤية حتى خضع لعملية جراحية لإعتام عدسة العين بعد عامين، وتمكن من استعادة بعض الرؤية ولكن بطريقة محدودة، وكان والده صانع ساعات وتوفي عندما كان عمره 12 عامًا فقط. ومع ذلك، قبل وفاته، باع الأب أعماله لترك عائلته في وضع اقتصادي جيد، كما حرص على إنشاء صندوق جامعي لابنه كي يدرسه. انضم برونر إلى جامعة ديوك، وهو في السادسة عشر من عمره وذلك كي يلبي رغبات والده المتوفى.

بدأ برونر حياته المهنية البارزة في جامعة ديوك الخاصة المرموقة بولاية نورث كارولينا، حيث تخرج كطبيب نفساني في عام 1937، وبعد ذلك تابع دراسته العليا في جامعة هارفارد، وفي عام 1939 حصل على درجة الماجستير وفي عام 1941 حصل على الدكتوراه.

كان برونر يهوديا وخلال الحرب العالمية الثانية، انضم إلى الجيش وعمل في الاستخبارات العسكرية، حيث استخدم تدريبه لتحليل الدعاية. في نهاية الحرب، انضم إلى فريق التدريس بجامعة هارفارد، حيث كان يعمل حتى عام 1972، تم التحق للتدريس في وقت لاحق في جامعة أكسفورد، إنجلترا..

في بداية عمله كأستاذ وباحث في جامعة هارفارد، سجل أحد الاكتشافات المبكرة للدكتور برونر أي ما يعرف باسم نظرية النظرة الجديدة، وهي أن التصورات التي لدى الناس حول الأشياء والأحداث تتأثر في كثير من الأحيان بالظروف الاجتماعية والثقافية التي لا يمكن رؤيتها. في واحدة من أكثر تجاربه شهرة، قرر أن الأطفال الفقراء لديهم تصور لحجم العملات المعدنية مختلف تمامًا عن الأطفال الأغنياء. بالنسبة لهم، كلما كانت القيمة النقدية للعملة أكبر، كلما تخيلوها أكبر. وقد ساعدت هذه الدراسة الدكتور برونر على استنتاج أن الدوافع الإنسانية كانت أكثر تعقيدًا مما كان مفترضًا في السابق، وأنها كانت عرضة للمشاعر والخيال والتكوين الثقافي.

لم يتفق برونر مع ما كان عليه علماء النفس من فكر سلوكي آنذاك وتمرد ضده، و نتيجة لعمله التعاوني مع ليو بوستمان ستولد النظرة الجديدة، النظرية الأساسية للإدراك، والتي تستند افتراضاتها على حقيقة أن الاحتياجات والقيم هي التي تحدد تصورات الإنسان.. وفقًا لهذه النظرية، فإن الإدراك ليس شيئًا يحدث فورًا، بل هو شكل من أشكال معالجة المعلومات يتضمن عناصر أخرى مثل التفسير والاختيار. جادل كل من برونر وبوستمان بأن علم النفس يجب أن يقلق بشأن أمرين: كيف ينظر الناس إلى العالم ويفسرونه وكيف يستجيبون للمنبهات. أدى اهتمام الباحث بهذا الموضوع إلى الانتقال من دراسة الإدراك إلى الإدراك، لفهم كيف يفكر الناس. من هذا القلق ولدت واحدة من أهم منشوراته: دراسة التفكير (1956)، والتي كتبها بالتعاون مع جاكلين جودنو وجورج أوستن. في هذا المقال، استكشف الباحثون طريقة تفكير الناس وطريقة تجميع الأشياء داخل الفصول والفئات. اكتشف برونر أن عملية التجميع تتضمن دائمًا مفاهيم الإجراءات والمعايير. وقرر أيضًا أنه لكي يحدث هذا التصنيف، يركز الأشخاص على مؤشر يتم اعتباره كأساس، من تلك النقطة إلى أشياء جماعية، وهو ما يتم بناءً على سعة الذاكرة والاهتمام الذي يلقاه كل شخص.. ولهذا السبب كان هذا العمل يعتبر نقطة انطلاق للعلوم المعرفية.

حاول برونر في كتابه المعروف “عملية التربية” أن يضع اللبنات الأولى لنظريته في التعليم والتي تنتمي إلى الاتجاه البنيوي في المعرفة والذي يهدف إلى تكوين صورة واضحة ومتكاملة لبنية المادة الدراسية لدى المتعلمين.

وذكر برونر ( العوض، 2016 )  أن أهم نتيجة توصل إليها في كتابه أن ” أي مادة تعليمية يمكن تدريسها للمتعلم مهما كان عمره وبشكل فعال وجاد إذا أخذ مستوى النمو المعرفي للمتعلم بعين الاعتبار “.

يعلن برونر أن الأشخاص يفسّرون العالم بحسب أوجه الشبه والاختلاف. مثل علم تصنيف بلوم، و يقترح منظومة من التشفير ينشئ فيها الأشخاص ترتيبا هرميا بتصنيفات ذات علاقة. كل درجة متعاقبة أعلى من التصنيف تصبح أكثر تحديدا، مما يذكّر بمفهوم بنجامين بلوم لاكتساب المعرفة بالإضافة إلى نظرية السقالات.

قام برونر بادعاء وجود نمطين أوليين من التفكير: النمط السردي والنمط النموذج:

في التفكير السردي يقوم الدماغ بتفكير تسلسلي، مرتكز على الفعل ومدفوع بالتفصيلات   (detail-driven).

في النمط النموذجي فإن الدماغ يتجاوز الجزئيات ليحقق معرفة نظامية وتصنيفية. في الحالة الأولى، يأخذ التفكير شكل القصص و”دراما مشوقة”. في الحالة الأخيرة، فإن التفكير يأخذ مبنى فرضيات (propositions) مربوطة بعمليات منطقية.

وأوضح برونر (العوض، 2016) أن هناك أربـعة جوانب أو ملامح رئيســـــــــية لبناء أية نظرية تعليمية وهذه الجوانب الأربع هي ما يلي:

1- يجب عند بناء النظرية أن يأخذ في الاعتبار العوامل التي تجعل الطفل مستعدا ليتعلم بكفاءة Predisposition to learning.

2- يجب أن يأخذ في الاعتبار بنية المعرفة structure of knowledge.

3- يتناول المجال الثالث للنظرية تتابع التعلم sequencing.

4- المجال الرابع يختص بطبيعة الثواب والعقاب والنجاح والفشل.

وذكر نصر ( 2009 ) أن نظرية برونر تسمى نظرية الارتقاء المعرفي، وتكشف قواعد اكتساب المعرفة أو المهارة وتقدم وسائل تقويم للنتائج، وتتضمن أربع سمات أساسية هي:

  1. الاستعداد: وهو الاهتمام بالخبرات التي تجعل المتعلم راغبا وقادرا على التعلم.
  2. بنية المعرفة: وهو تحديد طرق تنظيم المعرفة ليدركها المتعلم.
  3. التتابع: وهو تحديد أفضل التتابعات لعرض المحتوى التعليمي.
  4. التعزيز: وهو تحديد طبيعة ومعدل المكافآت.

ولعل من أهم ما يميز نظرية برونر أنها أعطت وزناً كبيراً للمدرس بمعنى أن مسؤولية المدرس عن مدخلات التعليم ومخرجاته قد تكون أكبر من مسؤولية المتعلمين خاصة لدى الأطفال منهم.

وانتقل برونر بصورة تدريجية من الاهتمام بالأبحاث المخبرية إلى الاهتمام بموضوعات عملية ميدانية، وركّز بصورة خاصة على كيفية تعلم العلوم العامة كما ركّز على أهمية الاكتشاف باعتباره يقوم بالدافع في عملية التعلم.

اهتم برونر بعملية التمثيل وفي بحثه حول تطور الأطفال (1966)، اقترح برونر ثلاثة أنماط من التمثيل:

  1. المستوى الحسي أو المرحلة الحكمية: ويتمثل في التعلم من خلال العمل أي خبرة مباشرة.
  2. المستوى الأيقوني أو والمرحلة التصويرية التقليدية: ويتمثل في استخدام صورة الشيء بدلا من الشيء ذاته في التدريس أي خبرة مصورة.
  3. المستوى الرمزي أو المرحلة الرمزية: ويتمثل في استخدام النظم الرمزية أي خبرة مجردة.

يعد برونر مـن أكثر الدعاة فـي عـلم النفس التربوي المعاصر لما يسمى بالتعلم الاكتشافي ويرى برونر أنه مطلب تربوي مهم فـي عصرنا يحـل مـكان التعـلم بالحفظ الصم و بطرق التفكير المقيد. ويعرف التعلم الاكتشافي بأنه إعادة تنظيم الأدلة او تحويلها. وهـو بهذا المعنى نوع من التفكير ويحدث عندما يذهب الفرد إلى ما هو أبعد من المعلومات المعطاة ويصل الى استبصار وتعميمات جديدة. ( ابو جادو، 2000، 139).

وأوضح عبد الهادي (2000) أن برونر يعتقد أن كثيرا من الموضوعات يمكن تدريسها للتلاميذ في المراحل المختلفة، لكن الأمر يعتمد على الكيفية التي تنظم بها هذه الموضوعات، وهذا ما يطلق عليه اسم المنهج الحلزوني أو اللولبي، ففي هذا المنهج يمكن إعادة كثير من الموضوعات في المراحل الدراسية المختلفة، لكن بشكل موسع من جانب، وباستخدام أنماط التعليم المختلفة من جانب آخر.

في عام 1972، تم إغلاق مركز الدراسات المعرفية، و انتقل برونر إلى إنجلترا حيث عمل في جامعة أكسفورد حيث ركز على دراسة التطور المعرفي في مرحلة الطفولة المبكرة.

في عام 1980 عاد إلى الولايات المتحدة وفي عام 1981 بدأ التدريس في المدرسة الجديدة في نيويورك، ثم التحق بعد ذلك بكلية جامعة نيويورك..

مساهمات الباحث لم تمر مرور الكرام. لقد كان دائنًا لشهادات تقدير مهمة مثل ميدالية CIBA الذهبية التي حصل عليها في عام 1974 أو جائزة بلزان  Balzan عن عمله بحثًا عن فهم العقل البشري.

ومع ذلك، نشر له الواقع العقلي والعوالم الممكنة (1986) حيث أظهر تركيزه الخاص على بعض مواضيع الأنثروبولوجيا والأدب، وكان أحد أهم النقاط في حياته المهنية.

في نفس العام ساهم أيضًا في إنشاء الكاسيت التعليمي حديث الطفل Baby Talk، حيث يتحدث عن العمليات التي يكتسب بها الطفل قدراته اللغوية..

وفي عام 1990 نشر سلسلة من المحاضرات، حيث دحض منهج المعالجة الرقمية لدراسة العقل البشري وأكد مرة أخرى على الجوانب الثقافية والبيئية للاستجابة المعرفية.

وبدأ برونر بنشر مؤلفاته بالإنكليزية عام 1960، وأخذت تتزايد وتتنوع منذ ذلك الحين، ومنها: «عملية التربية» (1960)، و«حديث الطفل» (1983)، و«الأفعال ذات المعنى» (1990)، و«ثقافة التربية» (1996)، نحو نظرية التدريس 1966، دراسات في النمو المعرفي 1966، عمليات النمو المعرفي 1968، ما وراء المعلومات المقدمة 1973 إضافة إلى بحوث كثيرة عن فعل الاكتشاف والنمو المعرفي.

الخاتمة

نظرية برونر تنتمي إلى الاتجاه المعرفي في التربية، والذي يهدف إلى تكوين صورة واضحة ومتكاملة لبنية المادة الدراسية لدى المتعلمين، فهي قدمت المنهج الحلزوني لبناء المنهج، وراعت المستويات العقلية للمتعلم بصورة متدرجة من المحسوس إلى المجرد، و اهتمت بالعمليات العقلية التي تتم من خلال الاكتشاف وليس بالنواتج، وقدمت المفهوم للمتعلم بما يتناسب مع قدراته واستعداداته، واهتمت بعمليتي التعزيز والتقويم واختبار المعلومات لتثبيت عملية التعلم، وأخذت بالمدخل الكشفي في التعلم. وعلى الرغم من إيجابياتها المذكورة، إلا أنها تحتوي على بعض السلبيات، منها أنها ركزت على العمليات وأهملت النواتج، وقد لا يستطيع المتعلم التعلم بالاكتشاف لصعوبة بعض المواقف التعليمية، وقد يتطلب الاكتشاف في بعض الأحيان إمكانات يصعب توفرها في كثير من المدارس.

 


المراجع

– العوض، خالد عبدالرحمن. (2016). من البنيوية إلى ما بعد البنيوية: التحول الفكري في نظرية المنهج عند برونر. مجلة العلوم التربوية والنفسية: جامعة القصيم، مج9, ع3، 663 – 703.

– ابو جادو، صالح محمد ( 2000 ). علم النفس التربوي، عمان، دار الميسرة للنش والتوزيع والطباعة.

– نصر، حسن أحمد محمود، 2009، المخل إلى تصميم التعليم الخوارزمي. خوارزم العلمية جدة

 – عبد الهادي، جودت (2000): نظريات التعلم وتطبيقاتها التربوية، عمان: دار الثقافة.

البحث في Google:





عن د. طارق السواط

حاصل على دكتوراه الفلسفة في تقنيات التعليم بجامعة القصيم ومشرف عام الحاسب بوزارة التعليم بالمملكة العربية السعودية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *